...الإبرة والهشيــم
شطرنجيــون منسيـون... وسعــداء
إلى روح الشطرنجي المرحوم الحـاج محمــد كريــم
Maroc Echecs , le 21 février 2012 .
• الشطرنج لعبة ذهنيــة جميلــة، نتوخى من خلال مزاولتهــا المتعة المجـردة قبل أي شيء آخـر. وعندما نلقنهـا لأبنائنا أو نشرح قواعدها وحركاتها وتوليفاتهـا لزملائنا وأصدقائنا، فغايتنـا الأولى الإمتاع والمؤانسة، وليس تكوين أبطال مغاوير في مضاميرها، ولا سبر أغوارها الاستراتيجية أو التعمق في خباياهـاالتكتيكية.
• وفي تركيزنا على الجوانب الرياضية والتنافسيـة للشطرنج، وتغطيتنا الصحفية لبطولاتها ومبارياتها ودورياتها، واهتمامنا بالتحاليل التقنية لدسوتها ومسائلها ومنصوباتها، ومسايرتنا الحثيثة لأخبار نواديها وجامعاتها ومؤسساتها، وتفاعلنا مع مشاكلها التقنية والمادية والبشرية والتنظيميــة، ننسى ـ في خضم الحياة ـ السواد الأعظـم من الشطرنجييــن البسطاء، المبتدئين أو المعتزلين اللعباء، الذين لا يكترثون إطلاقـا باهتماماتنا وأشجاننـا "العاليــة"، المطلــة من أبراجنـا العاجية، التي قـد تختزل لعبـة الشطرنـج في أزمة جامعية مستفحلـة، أو بطولات متوقفـة، أو أنديـة مشلولـة...
• من هؤلاء الشطرنجيين "المنسيين" من يلتقي أصدقاءه في مقاهي شعبيـة أو نوادي اجتماعية، يستغرقون يوميا في مباريات لا تكاد تنتهي، تتخللهـا نكات طريفـة وحكايات لذيــذة ومواقف مثيــرة، غير عابئين بدقة حركات الفرسـان أو الفيلـة؛ يستمتعـون بخدعـة بسيطــة أو مكسب لقطعـة تائهة في وسط الرقعـة، أو مات على حين غـرة. لا يشغلـون بالهم بتحليل عميـق لوضعيـات انتهت وبادت، الأمـر الذي قد يحرمهـم من وقت إضافي ثمين لإعادة الكـرة وخوض عشرات الدسوت الإضافيــة، بتوابلهــا ومستملحاتهــا.
• ومنهم من يستقبــل ندماءه في بيتـه، ينفقـون الساعات الطـوال معـا على إيقـاع كؤوس الشاي المنعنعـة يلعبون الدسوت تلو الدسوت، ويتجادلون بحــدة حول وضعيات مربوحـة ضيعت، أو تضحيات جميلات أفلتت . وقـد يعيدون بشغف شديــد أدوارا تاريخية، أو منصوبات فنيـة، لا يملون من الانبهــار بهـا. ينسون في غمـرة شغفهــم مشاغـل الدنيا بأفراحـها وأحزانهـا، ويعرضـون عن أحاديث النميـمـة والخوض في أعـراض الناس. ألم يقل الملك الشطرنجـي الشاعــر عبد الله ابن المعتـز في وصف لعبـة الملوك وأهلها :
ياعائب الشطرنج من جهله** وليس في الشطرنج من باس
في فهمهـا علم، وفي لعبهـا** شغل عن الغيبة للناس
وتشغل الهائم عن حزنه** وصاحب الكأس عن الكـاس
وصاحـب الحرب بتدبيرهـا** يزداد فـي الشـدة والباس
وأهلهـا فـي حسن آدابهـم** من خير أصحـاب وجـلاس
• وهنــاك من تلقــن القواعــد الأساسيــة في مدرسة ابتدائيـة، أو دار للشبـاب في مدينة نائيـة، أو على يـد "حلاق" نبيـل في حاضـرة رباطية ؛ ولربمـا شارك في دوريات شطرنجيــة بسيطــة؛ وتولـع لفتــرة من الفتــرات قبــل أن تستغـرقه السنوات الدراسيـة الطويلـة ويغيب في معترك الحيــاة. ثـم ما فتـأت الصـدف تقـوده من جديـد إلى العوالـم الواقعيـة أو الافتراضيـة للعبـة الشطرنـج اللذيـذة، فيستعيـد بعضـا من مهاراتـه الماضيـة، ويبحث عـن صديق دراسـة أو زميل فـي المهنـة ليسـرق لحظات متجـددة من المتعـة الذهنيــة. وقـد يبـدي اهتمامــا بريئا بالمجال الشطرنجي : جامعـة وأندية ولاعبين؛ يريـد أن يسهـم من موقعه المهني أو الاجتماعي أو الثقافي في إشعـاع لعبـة نبيلـة ظـلت جذوتها متوقدة في أعماقـه، فيصطــدم بالواقع الذي لا يرتفـع، بتعقيـده وتشعبـه وصراعاتـه. وسـرعان ما ينكفئ على نفسـه، وينصـرف إلى شجونه الخاصـة، متعللا بالحكمـة القديمـة البليغة " إن العطار لا يصلـح ما أفسـده الدهـر".
• وفي عصـر الأنترنيت وانتشار البـرامج المعلوماتيـة، قد تلقى المآت بـل الآلاف من الهواة الذين لم يلجوا يومــا ناديا شطرنجيا، ولا شاهدوا بطولات ودوريات في فضاءات واقعيـة، وربـما لم يسمعوا قـط باسـم بارز من أبطال الرياضة الذهنية؛ عـالمهـم الافتراضـي يتشكـل من شاشـة حاسوب وفأرة سريعـة، ومنهــم من لم يلمس رقعــة شطرنجية ولا حرك بيـاذق خشبيـة أو بلاستيكية؛ رسلاؤهـم منتشرون عبر أصقـاع البسيطــة. منهــم من تلقــى المبادئ الأولى من معلـم قديـم أو صديق أو قريــب، ثـم ما لبث أن اكتشــف بنفسـه ما تتيحه اللعبـة من تنافـس واستمتــاع عبر الأثيـر، دونما مواجهات وأعصاب؛ .
• هؤلاء الهـواة المولعون الحقيقيـون هم الذين يفسرون الشعبية "الخفية" التي تتمتع بهارياضة الشطرنــج النبيـلة، ويمنحونها تلك النكهـة الخاصة التي تميزها عن سائـر الألعاب والرياضات الذهنية. شطرنجيـون منسيون ولكنهـم سعـداء، بعيـدا عن ساحـة شطرنجيـة مريضـة تعـج بالأدعيــاء؛ ديدنهـم طبـخ الدسائس وحبك المناورات، من أجل الحفاظ على مكاسب واهيـة لا تنفع في الدنيـا ولا في الآخــرة !
"فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ في الأرض"
محمد مبارك ريان